النفط والنفوذ والتحالفات الهشة: علاقات ليبيا التجارية الغريبة وسط الصراع
في خضم الفوضى التي تشهدها ليبيا ما بعد الثورة، ينبغي أن تكون التجارة أقل المواضيع إثارة للجدل. ومع ذلك، فإن شريان الحياة الاقتصادي الأهم للبلاد – تجارتها الدولية – متشابك في شبكة من النفوذ الأجنبي والتنافس السياسي والحكم المجزأ. وخلف تدفق النفط الخام والسلع المصنعة تكمن قصة أعمق وأكثر تعقيدًا: حيث تلعب الدول دور التاجر والمتدخل في اضطرابات ليبيا المستمرة.
خريطة التجارة الليبية: من يشتري ومن يبيع؟
في قلب الاقتصاد الليبي ”سلعة واحدة: النفط. واستناداً إلى بيانات مرصد التعقيدات الاقتصادية لعام 2023، شكل النفط الخام الغالبية العظمى من صادراتها البالغة 35.4 مليار دولار، حيث يتجه نحو 90% منها إلى حفنة من الدول فقط. وكانت إيطاليا (7.96 مليار دولار)، وألمانيا (5.16 مليار دولار)، وإسبانيا (3.08 مليار دولار)، وفرنسا (2.64 مليار دولار)، والصين (2.2 مليار دولار) من بين كبار المشترين. يمثل الاتحاد الأوروبي أكثر من نصف التجارة الخارجية لليبيا، مما يجعله أهم كتلة تجارية للبلاد“.
على جانب الواردات، تستورد ليبيا كل شيء من الآلات إلى الغذاء والمركبات. الصين هي أكبر شريك استيراد لليبيا بقيمة 3.9 مليار دولار، تليها تركيا (3.26 مليار دولار)، وإيطاليا (1.84 مليار دولار)، والإمارات (1.83 مليار دولار)، ومصر (1.79 مليار دولار). تظهر هذه الأرقام تبعية واضحة: ليبيا تصدر ثروتها من المواد الخام وتستورد البنية التحتية الأساسية والسلع الاستهلاكية.
لكن هذه الروابط التجارية لا توجد في فراغ – فهي تتشكل بعمق من خلال المشهد السياسي المجزأ وطموحات القوى الأجنبية المتنافسة على النفوذ.
بلد واحد، حكومتان، أجندات متعددة
ظلت ليبيا منقسمة منذ عام 2014، مع إدارتين متنافستين – حكومة الوحدة الوطنية المدعومة من الأمم المتحدة في طرابلس والجيش الوطني الليبي بقيادة خليفة حفتر في الشرق – يدعي كل منهما الشرعية.
إيطاليا، المهمة استراتيجياً بسبب قربها، لديها مصالح استعمارية واقتصادية طويلة الأمد في ليبيا، خاصة في مجال الطاقة. تحتفظ شركة إيني الإيطالية للنفط بواحدة من أهم العمليات في البلاد. دعمت روما بشكل كبير حكومة الوحدة الوطنية لكنها تحافظ على اتصال مع جانب حفتر.
فرنسا اتُهمت بلعب دور مزدوج. ففي حين تدعم رسمياً عملية السلام التي تقودها الأمم المتحدة، فإنها قدمت الدعم – وفي بعض الأحيان المساعدة العسكرية والتدريب – لحفتر. تركز باريس على مكافحة الإرهاب والنفوذ في شمال أفريقيا، على عكس موقف إيطاليا المؤيد لحكومة الوحدة الوطنية.
الولايات المتحدة، بعد سنوات من تقليص مشاركتها في أعقاب هجوم بنغازي عام 2012 والحرب الأهلية اللاحقة، تواصل أعمالها في البلاد. لشركات النفط الأمريكية تاريخ طويل من المشاركة في السوق الليبي، حيث حققت شركة كونوكو فيليبس متعددة الجنسيات إيرادات بلغت 1.73 مليار دولار في عام 2023 وحده. لم تلتزم واشنطن بشدة مع أي من الفصيلين وتحافظ على المشاركة الدبلوماسية مع كليهما. من حيث السياسة الخارجية، يبدو أن الولايات المتحدة مهتمة أكثر باحتواء النفوذ الروسي، قلقة من أنهم يستغلون أزمة البلاد.
تركيا هي ربما اللاعب الأكثر انحيازاً بشكل علني. دعمت أنقرة حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس بالمعدات العسكرية والطائرات بدون طيار، وحتى بالقوات البرية خلال الحرب. وفي المقابل، أمنت حقوقاً بحرية في شرق المتوسط من خلال توقيع اتفاقية لإنشاء منطقة اقتصادية خالصة. هذا عزز العلاقات بين البلدين أكثر، رغم إثارة حفيظة الدول المجاورة.
الصين تلعب لعبة مختلفة تماماً. مفضلة الربح على السياسة، وضعت بكين نفسها كمستثمر محايد. الشركات الصينية متورطة في البنية التحتية والطاقة. في حين لم تختر الصين جانباً في الصراع، إلا أنها تتعامل مع من يملك السلطة في أي منطقة، مقدمة قناة نادرة للدبلوماسية الاقتصادية.
إسبانيا، رغم أنها أقل صخباً، تظل مرتبطة بليبيا من خلال أطر الاتحاد الأوروبي وواردات النفط والمصالح الأمنية في المتوسط. شركة الطاقة الإسبانية ريبسول – مع شركات أوروبية أخرى بما فيها إيني وبي بي – أعلنت العام الماضي أنها ستستأنف التنقيب عن النفط في البلاد بعد توقف دام عقداً.
التجارة كأداة للسلام – أم للانقسام؟
نظراً للتداخل الفوضوي للمصالح الأجنبية والتجارة، يثار السؤال: هل يمكن للروابط الاقتصادية الليبية أن تساعد فعلاً في حل النزاع؟
نظرياً، نعم. يمكن للترابط الاقتصادي أن يحفز الاستقرار. على سبيل المثال، تناقش ليبيا وتركيا اتفاقية للتجارة الحرة، والتي يمكن أن تبسط الاستثمارات ومشاريع البنية التحتية في قطاعات رئيسية مثل البناء والرعاية الصحية. مثل هذه الاتفاقيات، إذا شملت جميع أطراف الانقسام السياسي الليبي، يمكن أن تبني الثقة وتخلق مصالح اقتصادية مشتركة في السلام.
وبالمثل، يمكن للاتحاد الأوروبي أن يدفع نحو إطار تجاري رسمي مع ليبيا. فرغم كونه أكبر شريك تجاري، لا يوجد لدى الاتحاد الأوروبي اتفاقية تجارية شاملة مع ليبيا بسبب الصراع المستمر. يمكن لاتفاقية تجارية مشروطة – مرتبطة بالمصالحة السياسية وإصلاحات الحكم – أن توفر نفوذاً لمفاوضات السلام. وينطبق الشيء نفسه على الولايات المتحدة، التي تشارك أيضاً بشكل كبير في سوق النفط في البلاد ومن المحتمل أن يكون لديها قوة نفوذ أكبر.
يمكن أن يكون النهج الصيني المحايد نموذجاً مفيداً أيضاً. من خلال الحفاظ على الحياد، بنت الصين وجوداً عبر ليبيا دون تعميق الانقسامات. يمكن لمشاريع البنية التحتية التي تمتد عبر المناطق الشرقية والغربية أن تمهد الطريق للتنمية الموحدة.
لكن الوضع الحالي يرسم صورة أكثر تشاؤماً. غالباً ما تُستخدم التجارة لترسيخ التحالفات بدلاً من سد الفجوات. كما أنها مشوهة بكثرة من الأنشطة غير المشروعة التي تعيق تدفقها، حيث للأسف العديد من البضائع المستوردة تنتهي مسروقة وتُباع في السوق السوداء.
السيف ذو الحدين للتجارة
التجارة الخارجية الليبية هي شريان حياتها ونقطة ضعفها في آن واحد. فقد جذبت ثروة البلاد النفطية خطاباً أجانب لديهم رؤى متنافسة لمستقبلها. وعندما تستخدمها القوى المتحيزة، تصبح التجارة أداة للنفوذ. لكن إذا أعيد توجيهها نحو المنفعة المتبادلة والوحدة الوطنية، يمكن أن تصبح رافعة للسلام.
سواء أصبحت التجارة قوة للشفاء أو أداة أخرى للانقسام يعتمد ليس فقط على قادة ليبيا، بل أيضاً على شركائها الأجانب. سيتطلب التقدم الحقيقي من هذه الدول إعطاء الأولوية لاستقرار ليبيا على المدى الطويل على حساب المزايا الاستراتيجية قصيرة المدى – وهو تحول من السهل قوله لكن من الصعب تنفيذه في منطقة كان فيها النفط والسياسة والقوة دائماً مترابطين بشكل وثيق.